” الساخر كوم ”
تذكرت ذلك وأنا انظر إلى صورة ” كارل ماركس ” بملامحه القاسية ولحيته الكثيفة وعيناه الغائرتان ، تشبه لحد كبير ملامح الشيخ الذي عرفته ، وبدأت ذاكرتي تستدعي ذكريات أخرى لأشخاص يملكون نفس الملامح ، وكان الشيء المشترك بينهم جميعا هو ” اللحية ” ، واختلطت الصور بين شخصيات من التاريخ وشخصيات من واقعي ، وكلها كانت تتفق على أن ” اللحية ” لم تكن بالضرورة دليل التزام ديني واقتداء لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم تكن التماثيل التي صورت لنا فلاسفة الإغريق وبعض حكماء الشرق الآسيوي بلحاهم الكثيفة لم تكن تشير إلى أنهم ينتمون إلى نفس الدين أو أن لحاهم دليل التزام بأي ديانة وخصوصا ” كارل ماركس ” الشيوعي . ومع ذلك ظلت اللحية دليل عنصر مشترك واحد ، وهو الاحترام ، وما من مرة صدف أن قابلت شخصا ملتحيا إلا واظهرت له الاحترام بطريقة عفوية لا تحتاج مني للتفكير مطلقا فيما إذا كان الشخص ملتزما دينيا أو عالما فقيها ، هو شعور فطري تجاه هذه ” اللحية ” كرمز وقار ونضج يميز الرجل . قد يخالفني الكثير في ذلك ، ولكنني متاكد من شعوري الذي صارحت به أصدقاء آخرين وأكدوا لي حقيقة الأمر ، فكم من شخص ملتحي اكتشفنا أنه غير ملتزم دينيا إن لم يكن بعيدا كل البعد عن أبسط مظاهر الالتزام ، ومع ذلك في حضوره كان منظره يؤخرنا كثيرا في تردد ما بين احترام وخوف وتوتر وحرص قبل البدء في تجاذب أطراف الحديث معه بكل أريحية ، ومن ثم اكتشاف ما لديه قبل الحكم عليه ، وفي جميع الأحوال لم يكن احترامنا له خسارة ، فهي من الآداب العامة لكل من نقابلهم ونجلس معهم .
إن اللحية في حياة الإنسان الرجل لم تكن محتكرة على الملتزمين دينيا فقط حتى على مستوى الأديان الأخرى ، وقد يفاجئنا بأن عدد من الرهبان في المسيحية يطلقون لحاهم ، بل كانت تمتد إلى كل رجال العالم في المجتمعات القبلية ، او المجتمعات الارستقراطية ، والعلماء والمفكرين ورجال الدين وحتى البسطاء الذين يحافظون على قيمة الرجولة في أقصى مظاهرها ، لذلك وجدت أن الدين الإسلامي لم يختر مظهر ” اللحية ” ويسن اعفائها ، لمجرد جعلها نمطا ونسقا يخص المسلمين ، ولكن لأنها فطرة ارتبطت بقص الشوارب والمحافظة على مظاهر معينة تخص شعر الوجه ، فطرة تولد الاحترام كخلق جدير بالأخذ بين الناس ، والفطرة هي أهم المباديء التي حرص الإسلام على المحافظة عليها ليظل الإنسان في طبيعته محافظا عليها .
اللحية مظهر فطري يناسب الرجل ولعلها تتناسب طرديا مع تجربته في الحياة وتجعله يظهر بشكل يثير الاحترام في نفوس الآخرين . ولا أدري لماذا كنت أخاف واحس بالرهبة في طفولتي ، واظن أن هذه المشاعر هي انعكاس بسيط ومشابه للاحترام الخاطيء ، الذي يكون احكام مبدئية غير حقيقية ، بعضها يجنح لتهمة التشدد وجعل اللحية دليلا على العنف في الرأي وفي الاسلوب ، وهذا أمر غير حقيقي ، هو فقط انطباع تكون من خلال تطور الإنسان خلال تجاربه في مراحل نموه ، ومن ثم وجد نفسه في واقع إعلامي واجتماعي يفرض هذا الحكم اعتمادا على الأحداث التي خرج بها الملتحين ، وجعل اللحية دليلا على تشابههم ، حتى أن البعض أصبح يخاف من الوقوع في دائرة الاتهام بالتشدد لمجرد أنه ملتحي ، في حين أنها تصرف فطري يمارسه كل البشر على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم . لقد خلقت الاحداث لنا انطباعا خاطئا وجعلت الناس تقع في مرض نفسي جديد هو الخوف والرهاب غير المبرر ” فوبيا اللحية ” وربطها بالإرهاب والإرهابيين لكثرة تلك الصور التي تعرض ليل نهار للمتشددين في حين أن الآخر المعتدل بدأ يرفض اللحية اطلاقا ليكون مختلفا حتى في الشكل ، مما جعل الناس تبدأ بالتصنيف حسب هذا المظهر الفطري الذي لم يكن يوما دليلا على ما يملكه الإنسان من فكر أو رأي سواء كانت معتدل او متطرف ، وإنما تخلق انطباع بسيط يميز الرجل ببعض الوقار والاحترام . ولعل البعض يقول أن هناك ملتحين لا يملكون من الرأي والفكر شيئا يستحقون به الاحترام ، ولكن مع ذلك هو مظهر عام يولد الاحترام كممارسة أخلاقية يستحقها الجميع باختلاف مستوياتهم الفكرية ، ويظل الاحمق محترما في نظر من حوله ما دام صامتا حتى يتكلم ، وكذلك اللحية يجب عليها أن لا تتجاوز الانطباع البسيط الذي تحققه في النفوس ، ويترك الإنسان يدلل على نفسه بما يملك من فكر أو خبرة او نضج حققه من خلال تجاربه في الحياة . فوبيا اللحية جعلت الناس ينقسمون في احكامهم وآخرين يتطرفون في مظاهر نفي هذه الاحكام وإثباتها ما بين إعفاء للحية وحلق لها ،حتى أصبح الفكر مخنوقا بهذا المظهر الفطري البسيط .
Archived By: Crazy SEO .
0 التعليقات
إرسال تعليق