” الساخر كوم ”
نحن لا نعتبر الأدب مقصورا على المقبول ، وتركه في محل الحكم والقياس حسب الجزئيات الخاصة لكل مجتمع متفاوت في فروقاته وتفاصيله ، بل هو عملية تكاملية تقترن باتساع أرجاء الخلاف لفتح كافة الإمكانيات وتوسيع قاعدة الاحتمالات التي يمكن للإنسان استخدامها في بناء عالم افتراضي ورسم قيم خيالية مثالية تعني بفصل الواقع عن المستقبل وإبقائه قادرا على خلق المفاجأة .
ولو دققنا النظر في الأدب من حيث الاستساغة والقبول ، سنجد أن أهم أركان الأدب عالميا هي كونه شاذا في عملية التقاطه للصور والتفاعلات الإنسانية ، والتركيز عليها بطريقة تثير الفوضى وتجذب الانتباه ، بمعنى أن لولا الاختراق لكل القوانين الإنسانية في معظم الأحوال ، لما كان للأدب مكانة سوى في الكتب التشريعية ، ولكان مغلقا على حدود التعامل السلوكي المسموح به بعيدا عن أي محاولات لاختراق العادة وكسر الأنماط الاجتماعية التي يعتادها المجتمع ويسلم بها .
وحالة الرفض دائمة ومتتالية في كل مراحل الأدب تاريخيا ، ولم يكن الآدب يوما محل قبول عام وشائع باعتباره طريق خلاقة وقادرة على المساعدة في التطور والتحضر الإنساني ، لذلك فهو عملية تكاملية تنشأ رغم الرفض ، بل إن الرفض يجعلها أكثر إثباتا للدلالات التي تحاول تجسيدها من خلال محاولات التغيير والتحدي التي قد تنشأ في عقل الأديب والمفكر . وهذا ما يجعله تكامليا وشموليا في احتوائه لنفسه ، فنجد الأدب سرعان ما ينغلق على مراحله المتوالية ليواد شعورا بأن ما سبق اكتشافه لم يعد محلا للنزاع ويشرع الأبواب لطرق جديدة بحسب الظرفية الخاصة لكل مجتمع وكل حاضر وواقع في حينه .
ولا أجد مبررا يجعلني أستثني أدبا وأعتبره أجمل من غيره لمجرد المنهجية المتخذة فيه ، ورغم الأحكام والقياسات إلا أن الأدب لم يعنى يوما بقبول المسلمات القانونية التي وضعها المجتمع أو نزلت بها الرسائل ، ولو اعتبرنا هذا العنصر في حياة الإنسان لأمكننا أختزال كل الحضارة الإنسانية وثقافتها بالكتب السماوية فلا يصبح هناك أدب غيرها ولا يمكن خلق أدب مثلها .
إن السيء والجيد والرديء والمفيد والحسن والقبيح ، كلها مسميات لا تمنع الاستمرار في الإضافة إلى شمولية الأدب الإنساني ، ولكنها تحتوي عناصر أخرى يمكن البناء عليها من خلال القراءة داخل هذا الأدب وجعله مثالا تتجلى فيه إمكانية اعتبار سلامة الاحكام وصحتها على المجتمع ، ولهذا فالأدب حتى في أسوأ أهدافه ينقلب ضد صاحبه فيما لو كان يقصد به الإساءة ، والسبب في ذلك أنه يطبق نظرية انتاج الطاقة بطريقة التصادم للجزيئات ، وهذا يجعل كل إنسان يفكر بأن الكلمة هي جزء صغير والذهن مفاعل يحركها نحو الاصصدام بكلمات تمثل أفكار أخرى لتنتج طاقة ، ومن بعد ذلك فتلك الطاقة الفكرية والذهنية تصبح خارج عملية التحكم االذاتية ويترك أمرها للمسبب الرئيسي للتفاعلات وهو الإنسان بمجمل تفاعلاته العقلية والعاطفية .
الأدب الإسلامي :
فيما لو اعتبرنا هذا المصطلح مقترنا بضرورة المرحلة الظرفية الخاصة ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، سنجد أن هذا ينفي الامتداد التاريخي المبني للأدب الإسلامي على عنصر اللغة المشتركة مع مرحلة الجاهلية ، ولو جعلنا مصطلح ( الإسلامي ) يتوسع في مفهومه على القياس الخاص بهذه الشريعة وتقييمه لما تطرحه القرائح العقلية الأدبية . سنجد أن المرحلة التاريخية الجاهلية تدخل كامتداد اصلي لفترة الأدب الإسلامي فيما لو تذكرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .
ولو نفينا حقيقة أن المرحلة الإسلامية كانت مشرعة الأبواب من كل الاتجاهات قادرة على احتواء كل العناصر الظرفية المكانية والزمانية ، سنجد أننا نلغي فترات كبيرة من هذا التاريخ الأدبي لمجرد كونه ثقافة أتت من الشرق أو الغرب الذي شكل توسعا إسلاميا في احتواء المنطقة المعنية به . ولو افترضنا أن الأدب الإسلامي يمنع بالضرورة وجود أي انتاج أدبي مخل بالأحكام الشرعية ، سوف نعتبر كل ما أنتجه ابو نواس قبل زهده غير خاضع للتصنيف ، وما بعده يعتبر أدب إسلامي .
ولكن الأدب كما قلنا لا يمثل في مراحله أي عناصر قياس وتقييم تعتمد على الأحكام الاجتماعية والعرفية والفطرية ، ولا يعتمد على أن يكون مفيدا وصالحا في حد ذاته ، هو عملية تعبير من المفروض أن ينطلق بها صاحبها عن مصارعة الواقع لمجرد الاختلاف عليه ، وإنما لإيجاد استمرارية التساؤل والإنابة عن الكثير ممن يعجزون عن التعبير بنفس المستوى اللغوي الذي يخلص حالات صادقة رغم وقوعها في كثير من الأحيان في مساحات الخيال والتصور المبني على أجزاء مقتطعة من الواقع ومرتبة بطريقة تنافي المنطق المتعارف عليه والسائد .
العرض والطلب :
العرض للأدب هو ما يوقع أشد أنواع الخلاف من ناحية القبول والرفض ، وفي مجتمعات جزئية وصغيرة وذات نمط خاص نجد أن العرض يجد مقاومة شديدة عندما يحاول اختراق ذلك المجتمع ، رغم أنه مباح في مجتمعٍ موازٍ ومقابل ويتكامل مع هذا المجتمع الرافض ، لكن الأدباء في أغلب الأحيان يجنحون للتحدي كمادة مولدة للإبداع ، ويرون أن الرفض زاد يبقيهم في ميزان الندرة الإبداعية ، ولذلك من الطبيعي جدا ان يتكون لدنيا سلوك أدبي وإبداعي نتج عن مثل هذا التطور في الأدب الإنساني .
لكن المشكلة التي يخلقها المفكر والأديب هي عملية تسويغ ما يقوله باعتباره جائزا ومبررا ، وأن الصواب الذي بنى عليه إبداعه مقترن بذاتيته الفوقية وقدرته على اكتشاف جوانب عجز كامنة لدى القدرة الكلية للمجتمع ، وفي هذا تجني من المبدع والمفكر ، لأنه يفترض أن خروجه صدفة ولم يكن في أساسه مبنياً على ما حوله من محيط اجتماعي اقترن به اعتباره شاذا .
ولو أردنا تتبع كل إمكانيات التبرير المحتملة والتي يمكن للأديب والمبدع استخدامها سنجدها تنافي الفكرة الأساسية من وجود التشريعات ، لأن المنطق أداة عقلية تنافي في كثير من الأحيان التصرف الفطري النفسي الذي دأبت الأمم المختلفة على احتواء نتائجه السئية من خلال وضع الضوابط والقوانين .
الحلال والحرام :
إن إكثر الجدليات التي نشأت على أساس هذين الاصطلاحين هما في خلال التشريع الإسلامي ، والذي وجدته مقترنا بتصرفات غير منطقية من قبل المبدعين والمفكرين ، وهي عملية الدخول في تبريرات ترفض حكم المجتمع وتحاول جعل الاتهام براءة مبررة من خلال استخدام نفس القدرات العقلية لمراجعة الثوابت وربما الفروع المختلف عليها ، ولو تفكر الأديب والمبدع قليلا لاكتشف أن المنطق أداة منافية لإمكانية إيجاد تشريع حاكم ومقيم لحياة الإنسان ، والتتبع لمظاهر الإثبات التشريعي للأديان السماوية يجعلنا نتوقف عند خاصية المعجزات التي أثبتت صحة التشريع من خلال إحداث المستحيل ، لكي يتعطل العقل الإنساني عن ملاحقة الأسباب المنطقية ويجازف بانحراف مسار شائع من المفيد بقائه لصالح المبدع كقياس لندرته ، ولصالح المجتمع لإبقاءه متسائلا عن الجوانب الخفية في السلوك الإنساني والمقيدة بالتشريعات .
ومن العبث بما كان أن يتجه الأديب والمفكر إلى تبرير ما ينتجه ليجعله سائغا ومباحا لدى المجتمع ، والسبب في ذلك أن الأمر ليس تهمة بقدر ما هو رفض وإنكار يمنع تكرار الأحداث السيئة ويرجح الصلاح العام في سير المجتمع خلال الحياة . ولو فرضنا أن أحدهم يريد تبرير التعري أمام الملأ ، من السهل منطقيا التقاط اجزاء مبررة ويحاج بها الجميع ، وهي أن كل أجزاء جسمه وعورته هي أجزاء حقيقية والجميع يملك مثلها ، ولكن السلوك العام والتحضر يرفض هذا بالفطرة ، والفطرة ليست محل نزاع منطقي ، وتظل خفية في دفع وتحريك مظاهر المجتمع .
العهر الممكن والعهر المستحيل :
يقال أن حتى العهر يمكن القبول به متى تجمل وقدم نفسه بطريقة تجذب الانتباه ولكنها لا توقع التأثير المباشر ، ولو احتكمنا إلى قياسات العهر على مستوى إنساني شامل ، سنجد أنه يختلف في صوره ، لدرجة أن مجتمعا كاملا يعتبر عاهرا بالنسبة لمجتمع آخر ، يوجد داخله قوانين تمنع العهر وتطلق اتهام العهر على أقصى الحالات التي تنشأ داخله ، ومن السخرية أن ينطلق المسلم مثلا في حكمه على مجتمع كامل بالعهر ، ليكتشف أن ذلك المجتمع أيضا لديه قياسات مختلفة لهذا العهر . وهذا ما يجعلني أتسائل هل الأديب مسؤول عن ما يحيط به من قياسات كي يدافع عن نفسه ويرفع من قيمتها وهو يعرف في الحقيقة أنه اخترق أقصى القواعد وتجاوز الخطوط الحمراء ، أم أنه في حالة من النشوة تجعله ينسف بكل القيم المتعارف عليها لمجرد خلق مساحة خاصة به يضم إليها المعجبين به ، مع أن شهرته التي تحققت هي المساحة الكاملة لإبداعه وأدبه الذي انتجه ، سواء كانت شهرة سيئة أو حسنة .
وما استغربه أن العقل والفكر يمكن له أن يخلق عهرا فوضويا بعيدا عن خصائص وتفاصيل الجسد وما يرتبط بها من مظاهر جنسية ، والكثير من الأفكار قد تسبب عهرا في الفكر الإنساني يجعله يشطح نحو جوانب هدامة ومضرة بالتطور والتحضر الإنساني ، لكن العهر ارتبط فقط بهذا المفهوم ولم يتجاوزه نحو شأن ذي قيمة عقلية لا جسدية . ولو راجعنا بداية الخلق والتكوين سنجد أن الإنسان أغفل المفهوم العقلي في قصة نزول آدم عليه السلام إلى الأرض وارتكز على التأويل حول المؤثر الذي أنتج الحدث ، وهو أن أكل الشجرة أدى إلى انكشاف العورة ، لكن الفكرة العقلية هنا أن التجاوز هو الذي انتج العورة رغم أنها لم تكن ذات مفهوم واضح وصريح ، والشعور بالذنب الناتج عن هذا لم يكن سببه معرفة حدود العورة وتفاصيلها ، ولكن بسبب الخيانة الناتجة عن عدم الالتزام بالأمر وتجاوزه عن طريق الاستجابة للمثيرات والإغراءات .
يجعلني هذا الأمر أتوقف عند خلق تعاريف العهر ، لأجدها تنساق في سطحية الفهم الإنساني مما يجعلني أبرر توافد الشرائع السماوية في محاولة لتقنين هذا المفهوم وتجاوزه نحو أمور عقلية ذات إنتاجية أهم لحياة الإنسان ، وبعكس ما يعتقده بعض الأدباء من أن تسليط الضوء على هذا الجانب هو ما يخلق التفاعل ويحرك العاطفة والتفكير ويطلق لها العنان في حين أنه يعيد تقييدها في سطحية هذا المفهوم الذي لم يكن سوى مؤثر لحدث أعم وأشمل في مفهومه من مجرد كشف العورات والانسياق وراء الأوصاف التي تزيد في التفاصيل نحو النواة حتى يكاد يختفي الكيان كاملا ، في حين أن ما يقوم به الإنسان من اتباع للغرائز يقترن بالمحافظة على النوع كعامل ثانوي وليس رئيسي .
الأدب الحلال :
الحدود متفاوتة بحجم الخلافات التي نشأت خلال تطور الدولة الإسلامية وما فيها من تفرعات كان للبعض من الفقهاء فيها مراجعات كبيرة وواسعة على الأدب وأصنافه ، ولا اعتقد أن هناك أمرا جديدا لم يتطرق له الأدب القديم سواء بالكيفية أو الكمية التي تحد جوانب التجاوز من عدمه ، لذلك كان الأدب الحلال مفهوما بسيطا في اعتباره الأصلح لتقبل واستساغة العامة من الناس دون المزايدة على ضرورة الخروج عن المألوف لخلق أدبٍ مغايرٍ يمكن إنتاجه بطرق أقل إثارة وفوضوية مما يمكن للتجاوزات خلقه ، ولو لاحظنا أن الأديب الذي يبالغ في المؤثرات السطحية والهامشية والتي تحاكي العاطفة والغريزة ، يشل انتباه القاريء والذي الهدف المستفيد من الأدب ، ويجعله مقيدا باتجاه بؤرة بسيطة حتى الطبيعة تثقف الإنسان بخصوصها كما تفعل للحيوان . في حين أن العقل أكبر أداة يمكن التركيز على إثارتها نحو العمق الحقيقي والذي يحتوي على كل الإمكانيات الخلاقة بعيدا عن مسائل التزاوج والجنس التي هي مرتبطة بكونها آلية محافظة على النوع ، وليس العكس وهي المحافظة على النوع من اجل الجنس ، واقصد بالنوع هنا الإنسان . لذلك يمكن للطفل الصغير خلق مفهوم واضح وصريح عن الأدب الحلال ، وهو ذلك الذي لا يقترن بكشف السوءات وإثارة الممنوع ، حتى أن الكثير من الأشخاص الذين يهتمون بذلك النوع من الأدب لا يختلفون على كون ممنوعا ، كما يتفق الجميع على أن المخدرات مخربة للعقل ، ومع ذلك قد تجد من يتعاطاها رغم معرفته بنتائجها ، ولا يحاول تبرير فعلته ولا يحاول رفع قيمتها لتصبح من القيم الثابتة والمباحة داخل المنظومة الاجتماعية ، وقد تجد رجلا يدخن ولكنه يحذّر أبناءه من التدخين ، هذا الأدب الحلال لم يكن يوما مقترنا بالكثير من الفقهيات لدى العامة ، بل منتشر بالضرورة الفطرية الناشئة داخل كل كائن إنساني ، يستطيع فهم ماهو مباح وغير مباح .
الحرام المؤدب :
يقال أن الحرام يمكن شرحه والإسهاب فيه بهدف التعليم ، وهذا مبرر يؤخذ له في عدة اوجه مثل لا حياء في الدين ولا حياء في العلم ، فهل يمكن القول ولا حياء في الأدب . ؟
إننا هنا نركز على الجانب الآخر من التساؤل ؟
الدين
العلم
الأدب
ونعترف بصحة الجزء الآخر دون تدقيق والذي يصبح رسالة ذهنية مستقرة وصالحة للاستخدام في أكثر من مناسبة وهو ( لا حياء ) .
فهل يمكن خلق حالة من اللاحياء ، هنا التساؤل الحقيقي ، هل يمكن لأي إنسان مهما كان المبرر أن يعتبر هذه الجملة قابلة للاستخدام حرفيا بحيث تطابق حقيقة الوصف اللغوي لها داخل الطبع الإنساني ، هل يمكن للإنسان أن ينتزع الحياء لمجرد أنه يشرح او يكتب او يمارس أمرا في الدين أو العلم أو الأدب . هذا الأمر مشكوك في صحته ، وإنما تم إطلاق هذا النداء كعامل جذب يقلل من حجم المشكلة التي قد تحدث في حال أن الجميع لم يستطيعوا تجاوز الحياء للحظات من أجل تحقيق مصلحة وفائدة اهم واعم ، وهذا ما يجعله نداء خاضع للضرورة ولا تخضع الضرورة له ، بحيث أنه لم يعد يعتبر قياسا حاكما لأن الدين والعلم والأدب أصبح شائعا والإقدام عليه لم يعد مقترن بالخطوط الحمراء الكثيرة التي كانت ولم تعد الآن ، وهذا ما يؤهل رؤيتنا لهذا المصطلح على أنه وقتي وظرفي حين كان الناس يركزون على الحياء لدرجة تعطيل جوانب دينية وعلمية وأدبية ضرورية .
ولا اعتقد أن حتى أولئك الذين يمارسون الأدب أو العلم ، يستجيبون بشكل كلي لهذا المفهوم ، إنما يرسلونه بطريقة عرض مؤدب يجعل المجتمع يتقبل عملهم وأدائهم باعتبار أنه ضرورة لا يمكن للجميع ممارستها . ولكن ما يحدث الآن أن الناس تأخذ بهذا كمبرر وتقيمه حدا لصلاح كل الأفعال المتجاوزة لقياس الفطرة الطبيعي لدى الإنسان المتحضر والمدني بطبعه .
لم انتهِ ولكنني اكتفيء بهذا مؤقتا ….
تحياتي
Archived By: Crazy SEO .
0 التعليقات
إرسال تعليق